فتاتي منتصف الليل

جدة١٨ ديسمپر ٢٠١٤

كانت الصورة في تلك الليلة معقدة فكبرى البنات مريضة جداً، والصغرى صغيرة جداً، والكبرى تغار “ومن منا لا يغار”، حملت كلتيهما في حجري على كرسيَّ الهزاز. الصغرى ترضع متكأةً على يدي اليسرى وأحمل لها الرضاعة بيدي اليمنى التي تحتضن البنت الكبرى كذلك على الجهة اليمنى من صدري وجسدي. ونهتز سوياً بهدوء في حركة رتيبة تبعث على الملل الذي يهدف للنوم.لا بد أن كرسيَّ الهزاز روى حكاياتٍ عدة متفرقة، اعتبرته لازمة من لوازم المولود الجديد. تعلمتُ أن الأم لابد أن تكون مرتاحة والا توترت وأثر ذلك على طفلها، فنتج لديه المزيد من التوتر وبالتالي المزيد من البكاء والصريخ والتشنجات. اشتريت راحتي وراحة كل طفل من أطفالي بكرسي هزاز وثير. إنهما فتاتان، وهو أبوهما، أصبح هو أبو البنات. من يصدق ذلك؟ احتضنته إلى صدري وضممته قريباً أشم رقبته ووجنتيه أبحث عن رائحة الطفولة فيهما فصدمتني بقايا رائحة سجائر وملمس شعر الشنب والذقن المشوكتين. فضحكت، وقلت “مضى العمر يا ولدي” أصبحت رجلا وما زلت أبحث عن طفولتك فيك، وما زلت أتلمس لحظات كنت تدفع رجليك الصغيرتين تحت رجلي في أثناء نومك لكي تتأكد أنك ملتصق بي وأنك أقرب ما تكون مني.هناك عند طبيب الأطفال وقفت أتأمل، هناك مواقف تحفر في الذاكرة، لا يمكن أن ننساها مهما انقضت السنون، ثلاثون عاماً مرت. الطبيب نفسه لا يكاد يصدق أني أقف عنده حاملةً “بنت ابني” الذي في يومٍ من الأيام كان هو المريض، عادت بنا الذاكرة فسألني: كم كان عمره آنذاك؟قلت: كان عمره شهراً. أتذكر أنك قلت لي بهدوء قلق: لا بد من تنويمه في المستشفى لكي نتأكد من وضعه الصحي؟! كان قد هاجمه ڤايروسٌ عنيفٌ، ثم كان الصوت في القلب الذي سمعته، واستمرت الفحوصات والإجراءات لفترة طويلة. وقت المحن تعلم تماماً امكانياتك التي تدعيها وتعرف قدر طاقتك وتحملك الحقيقية. تذكرت صورتي وأنا ابنة الثامنة عشر أرقد على سرير مستشفى الأطفال، وابني على صدري يرضع، عليه الأجهزة والإبر، ودموعي تجري على خدي. ثم ابنتي التي تكبره بعامٍ واحد تزورنا مع والدها وهي لا تعي ما يحدث إلا أن ماما غابت عن المنزل مع ضيفها الجديد الذي يشبه الدمية. هكذا هي الأمومة دروسٌ مستمرةهكذا هي تضحياتٌ متكررة هكذا هي مسئولياتٌ ضخمةهكذا هي معرفةٌ وتطوير وصقلٌ وتلميع قلت للطبيب الذي شاخ، وابيضت سوالفه، أنا اليوم أشخص المرض وأصف الدواء، أتيت لك فقط للبركة.. تبسم وقال “بلا شك أصبحت طبيبة بالخبرة”، شد على يدي وهو يودعني وقال: ما تغيرت كثيراً..

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *