جدة١١ أغسطس ٢٠١٥منذ عامين قام “الكابتن إيهاب الجاوي” برحلة بحرية لا يزال يعتبرها الأفضل والأجمل بين كافة رحلاته. اجتمع المشتركون في الصباح المبكر ثم بعد إنهاء الاجراءات وحمل كافة المعدات إلى اليخت، تحرك اليخت حاملاً على متنه حوالي عشرين شخصاً، تحرك من ميناء البحر الأحمر الخاص بالقوارب واليخوت المخصصة للمتعة والصيد والغوص. تعارف أهل جدة على اللجوء لاستئجار هذه القوارب المخصصة للصيد أو الغوص والمتعة فقط من بعض الموانى المتخصصة في منطقة شرم أبحر أو خليج أبحر. حيث تُبحِر من بحر هادئ وبيئة متحكم فيها إلى البحر المفتوح في كل شئ، في تياراته، وأمواجه وعواصفه وكائناته، تبحر من المعروف إلى المجهول، وتنتقل من منطقة الراحة إلى منطقة التحدي كما هي الحياة كلها. تناول الجميع طعام الإفطار في جوٍ من المرح. تلك الرحلة البحرية كانت مختلفة، بل كانت متميزة. كعادته الكابتن والمدرب البحري “إيهاب” اعتاد أن يخرج بمجموعات طلبة الغوص من مبتدئين أو محترفين، من محبين للبحر إلى راغبين في التواصل مع الله عن طريق الطبيعة. لكن هذه الرحلة كانت مختلفة وحملت قلباً مختلفاً. كان أعضاء المجموعة المشتركة في الرحلة قد استضافوا معهم أحد أصدقائهم والذي قد أصيب منذ الطفولة بشللٍ كاملٍ في المنطقة السفلية من جسده. كان في أواخر العشرينات، حملوه حملاً وهو على كرسيه المدولب على متن اليخت الصغير الخاص بالغوص والذي لا يحتوي على وسائل الراحة أو الترفيه التي اعتادها إلا أنه كان يرغب في مرافقتهم، والتضحية في سبيل ذلك. كان “مصعب” يشتهي البحر والقيام بالأنشطة التي يقوم بها أصدقاؤه ومشاركتهم المتعة والحوار حول التجارب البحرية، لكن كانت إعاقته الجسدية تمنعه من ذلك فيتحسر في قلبه ويحتسب في هدوء. لكن في هذه المرة كان هناك إصرار منهم على مشاركته لهم الرحلة بغض النظر عن الأنشطة. بدأت الرحلة وشق اليخت عباب الماء بعد أن اجتازوا منطقة حرس الحدود وحصلوا على تصريح الإبحار. كان المشهد خيالياً بالنسبة لمصعب فهو في وسط البحر والماء يحيط بهم من كافة الجوانب، و”جدة” بمبانيها الشاهقة تتضاءل شيئاً فشيئاً حتى تختفي عن ناظريه تماماً. فجأة شعر بالخوف، ماذا لو حصل شئ؟ ماذا لو تعرضوا لطارئ؟ ماذا لو؟! لكن ألم يطمنه أصدقاؤه ويشكروا كثيراً في المدرب المسئول عن تدريبهم الغوص ووسائل السلامة وطرق الإنقاذ، ألم يؤكدوا له أن “الكابتن إيهاب” إنسان مسئول ومتقن. حتى هم أنفسهم اكتسبوا الكثير من المهارات والتمكن الذي استفادوه بالتدريب ولذلك حرصوا على وجوده معهم. طرح تلك الأفكار السوداء وانشغل عن نفسه بالضجة التي قام بها الشباب بجواره، كانوا يطبلون ويغنون أغاني سعودية قديمة وحجازية تراثية ويطلبون منه الإدلاء بدلوه معهم، كان يحاول جاهداً الانصهار معهم إلا أن الخروج من قوقعتة كان يبدو صعباً جداً.توقف اليخت في الموقع الأول لكي يقوم الغواصون بممارسة الغوص وانشغل الجميع بتركيب معداتهم والاستماع للإرشادات من المدرب، وصف المكان، العمق، توزيع المجموعات، إرشادات السلامة. كان “مصعب” يستمع من فوق كرسيه المدولب وقد بان عليه الانكسار، يريد أن يكون معهم لكن لا يستطيع أن يندمج إلا في حدود. فجأةً استأذن صديقه المدرب في أن يجلس “مصعب” على حافة اليخت بحيث تكون رجليه في الماء ويتمتع بمداعبة الماء عن قرب، وكذلك للتخفيف عليه من شدة أثر الحرارة بالترطيب بالماء. وبالفعل تم إحكام سترة النجاة البرتقالية اللون حول جسده النحيف ثم حُمِل “مصعب” ووُضِع على حافة اليخت إلا أن المدرب “إيهاب” فجأة اقترح بصوتٍ جهوري عالي أن يغوص معهم “مصعب” اليوم. تحمس الأصدقاء هللوا وتشجعوا وأبدوا مطلق الرغبة والحرارة والتعاون في تحقيق ذلك، بينما بقي مصعب غير مصدق، وافق وهو ملئ بالشك.  قام المدرب بشرح كافة الفكر النظري للغوصة الإرشادية الأولى في حياة “مصعب”، كما تم احضار المعدات اللازمة الخاصة بالغوص ووضعها في الماء.

أُنزِلَ مصعب للبحر، اللحظة التي غمر فيها الماء جسده كله ابتسم مصعب ابتسامةً كبيرةً غير مصدقاً أنه سيحقق إحدى أحلامه، كانت تلك الابتسامة أجمل مافي الحياة. شعر أنه أسعد الناس قاطبة وأنه أكثر الناس حظاً. تم ارتداء مصعب كافة المعدات وهو مغمورٌ في الماء، ووضع الهواء في فمه وبدأ يتنفس متبعاً تعليمات مدربه. كما تم توزيع الغواصين إلى مجموعة مساندة، مساعد المدرب جعل من نفسه هو رجلي “مصعب” وزعانفه، حيث أن مصعب ارتدى كافة المعدات ما عدا الحذاء البحري والزعانف لعدم قدرته المطلقة على تحريك رجليه فلم يكن لهما داعٍ، وجعل مساعدالمدرب نفسه مقام رجلي وزعانف مصعب. وكان المدرب عن يمين مصعب ملتصقاً به، وأحد الغواصين عن يساره وهناك مساعد مدرب آخر على بعد يسير يرقب المجموعة ويتأكد من سلامتهم جميعاً، أحد الأصدقاء كان يحمل الكاميرا المتخصصة ويقوم بتدوين فيلم عن التجربة كاملة. كانت الغوصة الإرشادية قصيرة وعلى عمق يسير جدا، لكنها كانت الأمتع لهم جميعاً، تجربة أولى وجديدة للكابتن إيهاب، تجربة فريدة لمصعب جعلته يدرك أن هناك أحلاماً ممكنة كثيرة يستطيع تحقيقها لكن عليه فقط أن يثق في الآخرين وان يخرج من قوقعته. باقي الأصدقاء تمتعوا بابتسامة صديقهم الحبيب وكانت لهم أجمل جزاء وأروع أحساس، شعور بالإنجاز والسعادة ليس كمثله شئ.  عاد الجميع لليخت بعد انتهاء الغوصة وقد أثلجت صدورهم، وحققوا حلمهم كذلك، حملوا مصعب بعد نزع معداته عنه في الماء لليخت من جديد وقاموا بوضع الماء العذب على كافة جسده لإزالة الملح، كانوا يلعبون بالماء ويتراشون به بعضهم بعضاً وقد علت ضحكات مصعب عالياً في الهواء، هكذا تكون الحياة..

ريم فؤاد بخيت

ناشطة بيئية واجتماعية

خبراء المستقبل للاستشارات

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *