مجاورة داعش

 المدينة المنورة٢٧ يونيو ٢٠١٥  ١٠ رمضان ١٤٣٦ لن أنسى هذا اليوم ما حييت، لن أنسى ما شعرت به، لن أنسى دموعي ودعواتي، تضرعي ودعائي، لن أنسى الذل والهوان الذي شعرت به، لا لن أنسى.جلست في الحرم النبوي الشريف في هذا المكان الطاهر المبارك، مصحفي بين يدي وجوالي يشغلني، أتحاور مع إبني الذي يعيش في بلاد الواق واق “أقصد جزيرة موريشيوس” أكتب له وأتواصل معه لأطمئن على أحواله في غربته أو في غربتنا عنه.. انشغلت بالحوار مع إبني عن ما حولي في الحرم في هذا النهار الرمضاني. كانت النساء تقعد وتقوم، مجموعاتٌ تتجهز للزيارة الشريفة ثم صوت مخيف يصدر من جموع الهارعات لزيارة الحجرة النبوية والمقام الشريف، صوت حركة واحدة وانطلاقة موحدة، جيش نسائي مخيف، نساء تتسابقن للروضة الشريفة. آثرت السلامة وعدم التصارع من أجل الصلاة في الروضة، وآثرت غيري من زائرات الخارج، بقيت في مكاني، مشغولة بالحوار مع ابني. جاءت ووضعت كرسيها وجلست بجواري على يساري، انتبهت لها كانت في منتصف الستينات، امرأة ذات جمال لم يضمحل تماما، جمالٌ تركي راقٍ. سلمتُ على جارتي بعد ان ودعتُ ابني، سألتني مباشرة اذا كان الجوال فيه انترنت، أجبت بنعم. سألت هل من الممكن ان تكلم إحدى بناتها في الانترنت عبر فايبر أو غيره بجوالي ثم أخرجت من حقيبة يدها ورقة ًفيها أرقام واسماء بناتها ومكتوب عبر فايبر او واتزاب.. أضافت أنا من العراق، كانت كل الأرقام مدونة بلا مفتاح الدولة، سألتها هل تعرف رقم مفتاح العراق فأجابت بالنفي. اتصلت على الاستعلامات وأخذت مفتاح العراق 00964 هكذا قال الدليل.. أضفت الرقم الأول لابنة اسمها “هديل” وحاولت الاتصال فنجحت في الاتصال على هديل وأعطيت الهاتف لوالدتها بعد أن طمنتها وطلبت منها أن تأخذ راحتها في الحوار لأني لا حاجة لي بالهاتف الجوال الآن.. وانشغلت بقرآني، هي تجلس بجواري تتحاور مع ابنتها بحنان بالغ وقلق شديد. تطمئنها على رحلتها وتخبرها بالتفاصيل:- نحن في المدينة اليوم، وغدا ظهرا نتيسر لمكة، سأقوم بالعمرة.. صمتت ثم قالت:- نعم بالطبع سأعمل عمرة عنه كل يوم.. وبدأت تشهج بالبكاء:- رحمة الله عليه.. رحمة الله عليه..  يا هديل أنا لا أكف عن البكاء، أراه في كل مكان، أراه في سجودي وركوعي، أراه في صلاتي وفي نومي.. بكاءٌ حارقٌ ودموعٌ ساخنةٌ تخرج من هذه السيدة الستينية.. واضح أن عندها حالة وفاة حدثت لهم قريباً، أصبح قلبي ووجداني معها، شعرت بأن أمومتها تطغى على كل شئ، توصي ابنتها وتسأل عن زوجها وتطمئن على أفراد العائلة فرداً فرداً.. بعد أن أغلقت الخط من ابنتها قبلتني واحتضنتني شاكرةً، كانت عيناي تستفسر عن كل هذه الدموع، وهي كانت تريد أن تحكي، هي تريد أن تجد من يسمع لها.. وبدأت القصة، هم من الموصل بالعراق، عائلة متوسطة في وضعٍ اقتصادي طيب، تعمل وتكسب قوت يومها وتوفر وتشتري وتبيع. هي تعمل في مجال الخياطة وزوجها السبعيني كان مديرا لشركة كهرباء الموصل، كان يقبض مرتبا طيبا وبعد التقاعد أصبح يقبض معاش التقاعد.. منذ بضع أعوام تملكوا معرض لبيع السيارات كان ابنها الصغير يعمل فيه. وبدأت الأحداث تتوالى على العراق، قالت:- أيام حكومة المالكي كنا نشتكي من الخطف، حيث كثر الاختطاف وطلب الفديات مقابل اعادة الشباب لأهلهم. لكن وهنا توقفت.. وبدأت في نشيج مستمر، قالت:- منذ عام ونصف دخلت جماعات “داعش” للموصل، وأصبح الوضع محيراً. أخرجوا في أول دخولهم كل المسيحيين من أهل الموصل وطلبوا منهم المغادرة تاركين كل شى خلفهم، اركوا كل ما يملكون وخرجوا في يوم وليلة، حياتهم مقابل بقاءهم.

ثم تفرغوا لإيذاء الشيعة من أهل الموصل وضعوا علامات على بيوتهم وأخافوهم، فتركوا الموصل جماعات وفرادى حتى خلت المدينة منهم، ثم تفرغت “داعش” لنا لأهل السنة الموصليين. في البداية كان الوضع مقبولاً ثم أضحى مارثياً بكل معنى الكلمة. هم يعرفون عنا كل شئ، لا نستطيع أن نخبئ عنهم اي معلومات، داعش هي جماعات من أهلنا العراقيين، فجأة أكتشف أن ابن جاري ينتمي لداعش وان ابنة خالتي منهم، وهكذا دواليك. كانوا خلايا نايمة ونشطت واحتلت حكومة المنطقة، وأصبح هؤلاء الذين يعرفون كافة تفاصيل حياتنا هم الذين يحكموننا.   – بدؤوا بشكليات عجيبة، الچينز حرام والزي موحد، كل رجالهم يطلقون شعورهم ولحاهم ويلبسون الزي الأفغاني، وكل نساءهم يغطون بالسواد، يغطون إسدالاً بالسواد، فالنقاب وغيره لا يجوز عندهم. ثم استدركت:- إلا كبيرات السن مثلي غير ملزمات بتغطية وجوههن. – في رمضان تمنع السيدات من النزول للأسواق، فالمرأة لها حق التسوق قبل رمضان ولا يجوز لها النزول للتسوق خلال شهر رمضان، إلا كبيرات السن كذلك فهن يتجاوزن عنهن، فلسن فتنة. قالت:- زوجي لا يخرج من المنزل هو حليق طوال عمره وهؤلاء لو رؤوه في الشارع أقاموا عليه الحد أو عزروه وهو لا يقوى، هو كبير في أوائل السبعينات. أنا أقوم بالتسوق وقضاء حوائج بيتي وبيوت بناتي اللاتي فقدن أزواجهن. بكت من جديد، قالت: – لن أنساه كان اسمه عبد الله، أنجبت ولدين وست بنات وهو أصغرهم عمراً وأحسنهم خلقاً، كان يعيش معنا أنا ووالده بعد زواجه، تزوج صغيراً كان في الثالثة والعشرون حين تزوج، وقُتل وهو في السادسة والعشرون. تشهق بحرقة وتستأنف:- قتلوه قاتلهم الله، قالوا كان عميلاً. هذه تهمته “عميل للجيش العراقي”. أتعرفين ما هي الإثباتات التي أدانوه بها؟! قبضوا عليه متلبساً وهو يعطي فائض طعام غذاءنا لأفراد من الجيش في الشارع، هؤلاء يا أختي ضِعَاف لا يجدون ما يأكلون، كانت رواتبهم ضعيفة والآن لا شئ لديهم. أصبح عميلاً لأنه أطعمهم من جوع. بدأت دموعي تنزل أنهاراً، كيف أستطيع أن أمنع نفسي من أن لا أحزن، شعرت بقلبي يتفتت من الحزن وينفجر من القهر والظلم. بدأت أردد: حسبي الله ونعم الوكيل، وهي تردد معي وقد اختلطت دموعنا سوياً. قالت: – كنا قد انتهينا للتو من طعام الغذاء، دخل معي المطبخ يساعدني ويضع باقي الطعام في قصدير، ثم تناول تفاحة وضعها في جيب قميصه ونزل للشارع، كان هناك أحد أفراد الجيش العراقي السابق يقف في الزاوية وهو في انكسار وضعف وجوع. استدركت:- نزل يا أختي فما رجع. لم أرهُ ثانية. غاب إحدى وعشرين ليلة ونحن نبحث عنه، حكومة داعش تنكر معرفتها بمكانه، ويتندرون ويضحكون على حرقة قلوبنا. ثم بعد ثلاثة أسابيع أبلغونا أنه قتل وأن حكماً قضائياً صدر ضده. حكم قضائي صدر ضده بعد قتله بإحدى وعشرين ليلة؟!  أتعلمين حين استلمت جثته كانت التفاحة مازالت في جيب قميصه كما وضعها بنفسه. لم تخرب التفاحة فقد كانت جثته محفوظة في الثلاجة، لكن خرب كل شئ آخر. اعتدَّت زوجته في بيتنا إلى أن مر شهرٌ على وفاته فتلقينا خبر قتل زوج أختها بالإغراق في الماء، كانت تهمته الردة لأنه ارتدى زي اليهود والنصارى أي بنطالا من قماش الچينز. فاستأذنتنا في أن تذهب لبيت أهلها لكي تستأنس هي وأختها سوياً، أو بمعنى آخر لكي تخفف كل منهما عن الأخرى مصابها، أخذت ابنها وابنه معاها وهو كل ما بقي من عبد الله، هو روحه ورائحته. يا أختي لن تحلو الحياة بدونه، مرت ثلاثة أشهر على مقتله لكن كإنه قُتِل البارحة. نارٌ تشتعل في صدري لا ينخفض لهيبها، وغضب يستعر في صدري لا يخف وطؤه. خربت حياتنا ودمرت علاقاتنا وزرعوا الخوف في وجداننا. يا أختي استغفروا، أكثروا من الاستغفار ولا تظلموا فدعوة المظلوم بيس بينها وبين الله حجاب، يا أختي احمدوا ربكم، وحافظوا على النعم، فلا تسرفوا لكي لا يحرمكم الله.

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *