الطائرة ١٨إبريل ٢٠١٥
هل ممكن لقصة أن تترك أثراً نفسياً شاقاً كهذه الرواية؟! هل ممكن أن ننتقل بدموعنا وأحاسيسنا ومشاعرنا من حزن ودموع لفرح وهناء؟! لعب الراوي بعواطفي، بل أرجحني كالبندول بين يديه، يمنة ويسرة. رواية عميقة، رواية قوية، رواية كشف فيها “سعود السنعوسي” عن عيوبنا كعرب، عن أفكارنا المتعفنة، عن ادعاءاتنا الباطلة، عن تديننا الكاذب. عرانا أمام أنفسنا، ووقف يتفرج معنا على عريه كذلك فهو جزء من العرب. لعلها صاحبت سفري وترحالي، لعلها صاحبت المحبة والوئام الذين عشت فيهما هذا الأسبوع بين ابني، اللذان لا يأبهان البتة لما يقول الناس، اللذان لا يعيران التفاتا لرأيٍ فيهما أو توجيه لهما مادام قائما على ما تعارف عليه الناس.ارتحت في داخلي معهما وتساءلت: ألأني أهرب من واقعي؟ أهرب من واقع يعطي فيه الناس بدون حب، يعطون لأنه واجب العطاء، لأنها تمثيلية وضعوها فصدقوها. ويأخذ الآخر لكن.. بدون امتنان وكأنك مجبر بل مكره على العطاء.كرهتُ التمثيل منذ زمن طويل، عفت الأقنعة منذ قرأت عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وصحابته الكرام. وفهمت أن الدين واسع لكنا ضيقناه كثيرا ونحن نُفَصِّله، ضاق حتى اختنقنا به. وما فهمنا لماذا اختنقنا؟ ولم نستوعب أنا نحن السبب. إذا أحببتني فأخبرني بحبك، إذا كرهتني فأخبرني ببغضك لي. لعلي لذلك أحببت عالم الحيوان والنبات وما نطلق عليه عشوائيا ب “الجماد” الذي هو حيٌ كذلك يشعر ويفتقد ويحزن. لعلي لذلك تخيرت ناسا مختلفة لمعاشرتها، اختلطت بناس خارج دائرتي المعرفية المعتادة، ارتحت للكثير ممن هم خارج جنسيتي لأني لا أرى في جواز سفري الأخضر أي هوية ذاتية الا الانتماء لأرض مقدسة أتمنى أن أموت فيها وأدفن بين رفاتها، أما التميز أو التفرد أو التحيز فلا. دفعتني الذاكرة بعيداً، للصف الأول الإعدادي “المتوسط”، كان عمري وقتها اثنى عشر عاما، أرتدي المريول المدرسي المكون من تنورة كحلية اللون، وقميص أبيض رسمي، وربطة عنق كحلية اللون، كنا نبدو في قمة الأناقة بزينا المتميز عن باقي المدارس، قد أعطى اللون الأبيض هالة ناصعة حول وجوهنا الصغيرة المتطلعة للحياة والناظرة للمستقبل. هناك في الفصل الذي كان متفردا في موقعه بالمدرسة القديمة، لا أعلم لماذا كان هذا الفصل بعيدا عن باقي الصفوف الدراسية التي اجتمعت في مبنى واحد متحد، أما هذا فتفرد لعله كان المراد به مستودعاً في أصل التصميم المعماري او معملا أو مرسما إلا أنه تحول فصلا وكان من نصيب دفعتنا في ذلك العام الدراسي. هناك مع صديقاتي وزميلات الفصل كنا نقضي اوقاتا ممتعة ما بين دراسة ولعب وغناء وحل واجبات وهروب من الحصص المملة لقرب الفصل من الحديقة ولبعده عن المراقبات. وفي يوم من الأيام الدراسية، وكان يبدو يوما عاديا مثله كسائر الأيام، كان يوم أربعاء وكنا في ضجة معتادة خاصة في الحصص الأخيرة حيث نبدأ في استقبال عطلة نهاية الأسبوع بتحفز وترقب. وفجأة اثنين من صديقاتي المقربات يتشاجرن، كنت أكتب الواجب فلم أعر الأمر اهتماما في البداية الا ان الحوار ما لبث أن شدني واستثارني. قالت إحداهن:- أنت لاجئة هنا في بلادنا ولا حق لك. فأجابت الثانية بحنق:- أنا فلسطينية لا أعرف غير هذا البلد ولم أعش في غيره. اللجوء فُرِضَ علي وما اخترته اختياراً.- إذاً سكي بوزك وما أسمعك تنتقدي هذه البلد التي آوتك وأهلك.- ومن يمنعني أن أقول ما أشعر به؟! – نحن أولاد البلد نمنعك من أي نقد، أو رأي، إنت تحمدي الله على الخير اللي إنت فيه هنا. هنا كانت زميلتي الفلسطينية قد تسارعت دموعها تجري على خديها، ووقفت بنت البلد وقفة المنتصر، وهي تعلن أن أي أحد ينتقد حتى المرور قي الشارع هي ستقف له بالمرصاد، وهي ستدافع عن هذه الدولة، من “الأجانب”.. لا أعلم بعدها ماذا حدث؟ فعلا لا أذكر التفاصيل إلا أني شعرت بنارا تحرقني من الداخل، شاهدت دموع زميلتي وكانت بالنسبة لي بنزينا أو غازاً ساماً. لا أعلم كيف صفعت خد بنت البلد صفعة تردها إلى رشدها وتنزلها من علوها. لعلي كرهت الكِبْر الذي كانت تتخاطب به، لعلي كرهت التحقير في نبراتها، لعلي أردت أن أردعها من أجل ذاتها ومن أجل الأخريات.
اليد الواحدة لا تصفق، ولكنها تصفع، والبعض ليس بحاجة ليد تصفق له بقدر حاجته إلى يدٍ تصفعه، لعله يستفيق. “ساق البامبو” لعلها كانت صفعة للاستفاقة، صديقاتي ذهلن من هذه الإنسانة المسالمة التي انقلبت وحشاً كاسراً، الكل فتح فاه، هذه الطالبة التي كانت منشغله بحل الواجب وفجأة تحولت لأسد هائجٍ لا يعرف الحوار. وكانت النتيجة أن زميلتيّ الحبيبتين توقفا عن الشجار مباشرة، عاتبتني بنت البلد بشدة. أخبرتها بهدوء بأنها تعدت حدودها ولا فرق بيننا كلنا نعيش تحت نفس السماء ونستظل بذات الظل، كلنا نمتعض أحياناً، وكلنا نستمتع أحياناً، فلا تحرميها حق من حقوقها، وهو ببساطة التعبير.ذهبتْ حانقةً تشتكيني للإدارة والتي حولت الشكوى لمربية الفصل “الأجنبية” كذلك. مجلس تحقيق تعرضت له يوم السبت التالي، أول أيام الأسبوع. كنت خائفة، أول مرة في حياتي أفعل فيها فعلاً يعرضني للمساءلة والتحقيق وأنا الطالبة المعروفة بأخلاقها. قلقت كثيراً، تقريبا لم أنم في عطلة نهاية الأسبوع. صور العقوبة كلها تعرض نفسها على ذهني الصغير، بلاغ الإدارة للوالدة، حرجي البالغ امام والديَّ، كيف من الممكن أن أبرر فعلتي بصفع صديقتي، لا أعلم ماذا دهاني؟ أكرر الموقف في ذهني وأجد نفسي لم أفكر. أحاسيسي هي التي تصرفت لا لن أقبل بالظلم والقهر أما عقلي فقد تجمد، أصابته حالة من الجمود الذي قل ما تعرض له من قبل.
يوم السبت في الحصة الأولى استدعتني مربية الفصل، وطلبت مني البقاء في الفسحة في الفصل للمساءلة والتحقيق، كان صوتها دافئا، كانت حنونة، أشعرتني بشئ من الراحة. حان وقت الفسحة سريعاً، أُغْلِق باب الفصل علينا نحن الاثنتين فقط، ابتسمت لي مشجعةً، وأنا أشعر بالأرض تتداعى من تحتي، طمأنتني بهدوئها المعتاد تسألني عن ماذا حدث بالتفصيل ، وبدأت أحكيها بالتفصيل الممل مثلما طلبت، وانتهيت من قصتي، وقد تملكني شعور عجيب بالراحة، كل ما كنت أحتاجه حصل، كنت فقط أحتاج لسماع صوتي يروي القصة حتى أتأكد مما فعلت ولم فعلت؟ ابتسمت ابتسامة كبيرة وقالت:- لا عليك.. يلزمك فقط أن تعتذري عن فعل الصفع وليس عن الدافع. اعترفت بخطئي، وأبديت إذعاني للاعتذار. نادت مربية الفصل الحبيبة “السورية الجنسية” زميلتي الحبيبة بنت بلدي وقالت لها انني أعتذر عن الصفعة التي تلقتها مني، -جنبتني معلمتي الحبيبة أن أعتذر أو أنكسر أمام زميلاتي-، ثم أنبتها على الفحوى التي قالتها، فأكدت زميلتي انها تقصد كل كلمة ولن تتراجع عنها وأنها بلدنا وليست بلدهم، وأنهن معلمات وطالبات لابد ان يراعوا ذلك، فهي بلدنا ولا نرضى أن يمسها أحد بسوء، في تلك اللحظة تذكرت وظيفة والدها فهو يعمل في وزارة الداخلية وله منصباً لا بأس به، لكني تعجبت أكثر وشعرت بقمة التناقض حين تذكرت أن والدة زميلتي هذه “مصرية”. قال لي عقلي متحفزاً من جديد:- تستاهل والله أكثر من الكف اللي أخذته. لكني لم أتدخل فعقلي كان حاضراً، متواجداً وبقوة. انتهى الموقف بانسحاب مربية الفصل وحضور الوكيلة للفصل واستدعاءها لزميلتي بنت البلد. أنا لم أتغير كثيرا، ما زلت أنفعل بنفس الأشياء، ما زلت أرضخ لصوت العقل كثيراً، ما زلت المجنونة العاقلة. عجباً لك يا “ساق البامبو” حركت في كل هذه الأحداث، وكل الذكريات. عجباً لك يا ساق البامبو التي تقتلع من جذورك لكنك تنمو وتزهر في أي موطنٍ جديد، عجباً لك يا ساق البامبو كيف تمتد جذورك في الأرض الجديدة والتربة الغريبة، عجباً لك فالله اختار لك أن تحيا وتثمر، عجباً لك فلا يقف في مسيرك إلا الناس، وغالباً من بني وطنك، بل أقرب الناس إليك هم الذين لا يرضون أن يروك خارج سربك، فلا يصح أن تغرد خارج عشك. ليتني ساقاً من البامبو، أُقْتَلَعُ من جذوري فأنمو على هضاب الصين، وأنهار الهند، ومرتفعات أوروبا، وشواطئ أمريكا، وسهول تشيلي. ليتني ساقاً من البامبو أعرف أن امتدادي في أي مكان لا يعني إلا فعاليتي وقدرتي. “سعود السنعوسي” تباً لك، فما شعرتُ بساعات رحلة الطائرة بين موريشيوس وجدة، وأنا أتنقل بين روايتك وبين كتابتي التي حركتها روايتك. “سعود السنعوسي”أحييك، فأخيرا أجد فرسان للعربية ولدوا من جديد لكي يقودوا مسيرة اللغة ورقي الفكر العربي وسمو الكتابة الهادفة.أحييك وأرفع لك القبعة.
ريم بخيت
مستشارة تربوية واجتماعية
خبراء المستقبل للاستشارات
