منذ ثلاثة أعوام كاملة، انتقل أبنائي للاستيطان في مدينة “بوسطن” الأمريكية لإكمال دراستهم الجامعية هناك ضمن من نال منحة الابتعاث التي قدمها الملك عبد الله -رحمه الله- للشباب من أبناء الشعب السعودي. شهرٌ كاملٌ أمضيته معهم ما بين اختيار الشقة المناسبة والتأثيث لها وفتح حسابات البنوك والملفات الصحية والتنسيق مع الجامعات وكليات اللغات والاشتراك في شركات الكهرباء والجوال والانترنت وغير ذلك من مستلزمات الحياة في مدينة جديدة.. تحملتُ الكثير من الضغوط، وبفضلٍ من الله أتممنا المهمة بنجاح، وبدأنا نشعر جميعا بالاستقرار فأصبح من اللازم أن أكافئ نفسي. اشتركت في دورة الغوص بالبدلة الجافة، مدة الدورة ثلاثة أيام، تنقسم إلى جزء نظري وتطبيق في المسبح وغوصتين في البحر. هي فرصة لن تتكرر كثيرا لأن دورات البدلات الجافة مختصة ببحار الدول الباردة. كانت مدربتي روسية الأصل، بالتحديد من “أوكرانيا” وكانت أمريكية الانتماء والاستيطان. تعرف الكثير عن عالمنا العربي لهوسها برياضة الغوص فقد زارت “سيناء” والبحر الأحمر أكثر من مرة.. دربتني في أكبر مسابح بوسطن على الاطلاق في مسبح “جامعة بوسطن” المعروف، وجدت نفسي أصول وأجول ببدلة الغوص الجافة في مسبح أولومبي، وحدي أنا ومدربتي، أنفخ البدلة زيادة فأدور في الماء كالبالون ثم أخفض الهواء فيها فتنضغط البدلة وأشعر بجسدي كله ينضغط كذلك كالاسفنج، في الحقيقة كنت أنكمش وأتمدد.أفقد التوازن ثم أحصل على الطفو المثالي. بقيت كذلك في محاولاتي مع توجيهات المدربة وشرحها المتواصل حتى أتقنت التعامل مع البدلة الجافة. واستطعت أن أمارس مع مدربتي بعض الألعاب المائية بنجاح. في اليوم التالي في تمام السابعة صباحاً، اصطحبتني مدربتي في سيارتها التي نقلت فيها كل أدوات الغوص واحتياجات الدورة، واتجهنا لشاطئ ولاية “مين” الأمريكية على بعد ساعتين من مدينة “بوسطن”. وصلنا المحيط الأطلنطي عند منطقة صخرية مطلة على المحيط من خلال سلالم صخرية طبيعية غير متساوية أو معالجة، في تمام التاسعة والنصف صباحاً، لم نكن قد تناولنا شيئاً إلا كوباً من القهوة السادة وتفاحة. جهزنا العدة بجوار السيارة، وارتدينا بدلة الغوص الجافة التي تحتاج إلى جهد خاص جدا للارتداء وللخلع كذلك. كان مجرد تجهيز العدة وارتداء البدلة مرهق فكيف بالنزول بعد ذلك على الصخور وانا أرتدي العدة كاملة حتى وصلت للمحيط. كان الشاطئ صخرياً والمياه باردة جداً، فدرجة حرارة المياه تتراوح ما بين ١٢-١٤ درجة مئوية. الله يرحم أيامك أيها البحر الأحمر الجميل بدفئك وسهولة النزول إليك. نعم أنا أحب المغامرات، لكن يبدو أن هذه المدربة الروسية لا تعرف معنى “امرأة عربية مدللة” ولا تعرف أن النساء الخليجيات المعاصرات لا يقوين على المهام الصعبة والظروف القاسية. شرحت لها الوضع بأدبٍ جمٍ وبدون تجريح، قلت لها:- كيف سأصعد الصخور ثانية عند رغبتنا العودة للسيارة بعد انتهاء الغوصتين.قالت: كما نزلنا بالضبط.قلت: سنكون مرهقات!!. قالت: نعم بعض الإرهاق، لا تخافي إذا أنا أستطيع فأنت تستطيعين. تأملتُ جسدها الملئ بالعضلات وتفكرت في قوة ساعديها وهي تناولني أنابيب الهواء المضغوط الحديدية وليست الأنابيب المصنوعة من الالومنيوم الخفيف نسبياً.. وشككتُ في سلامة منطقها في التحليل والاستنتاج. انتهت الغوصة التدريبية الأولى بسلام، شاهدنا خلالها “سمكة الشيطان” في حجم ضخم، وهي سمكة مخيفة تشبه السمكة الصخرية السامة، التقطنا لها صورة وهي تسبح وتتبختر في المحيط. صعدنا من الغوص، وجلسنا نلتقط أنفاسنا فوق الصخور، وجدتها تطلب مني الذهاب معها للسيارة لإحضار الأنابيب البديلة، تسلقنا بالأنابيب الفارغة، ونزلنا من جديد بالأنابيب الممتلئة، وصلت للشاطئ الصخري من جديد وركبتي ترتجفان من الحمل الثقيل الذي أنوء به، كنت أظن أني قد سجلت في دورة تدريب في رياضة الغوص بالبدلة الجافة لا على دورة تدريب في القدرة على التحمل بحمل الأثقال وتسلق الصخور.
حاولت اقناع مدربتي بأني لا أرى داعياً للقيام بالغوصة الثانية نظراً لأني ولله الحمد قد أجدت الغوص بالبدلة الجافة والتعامل معها. رفضت المدربة بقوة فهي لن تمنحني ترخيص الغوص بالبدلة الجافة لو اكتفينا بغوصة واحدة فقط. تم تبديل أنابيب الهواء الجديدة ثم النزول في ماء المحيط من جديد، هناك في الأعماق استقبلني عدد وفير من حيوان “اللوپستر” ينطلق في كافة الاتجاهات بأحجام تصل لنصف ذراعي. اللوبستر يختبئ تحت النباتات البحرية أسفلي، كم تمنيت لو أستطيع التقاط واحد منها فقط لطعام الغذاء، واكتشفت أني جائعة فعلا. وبدأت أتخيل اللوپستر في صحوناً مختلفة وقد قمنا بطهيه بطرق متنوعة رائعة الثراء.
أستيقظ من أحلام الطعام الباذخة فمدربتي تشير لي باتجاه ضريح في الأعماق فنذهب أو بالأدق نسبح له، نقرأ سوياً ما كتب على إشارة الضريح اسم وتاريخ ميلاد وتاريخ وفاة، انقبض قلبي، توفي هذا الغواص في هذا المكان منذ عامين في نفس هذا الشهر، بسكتة قلبية أصابته أثناء الغوص. لا أعلم، هل تخيل صحناً من اللوپستر المشوي فهاجمته قبيلة من اللوپستر غاضبة ثائرة أم ماذا حدث؟ أما أنا الآن فأحلم بالخروج من الماء سالمة غانمة، ولن أتبطر على البحر الأحمر أبداً بعد اليوم. ما أجمل شعابنا المرجانية، وما أغزر ثروتنا السمكية، ما أجمل الدفء في بلادي، ثم نحن لا نقيم أضرحة تحت الماء وفي الأعماق. خرجنا من الماء وأمرتني مدربتي مباشرة بتسلق الصخور للوصول للعربة لكي نضع معداتنا هناك، فلا نتعب صعودا ونزولا. قلت معترضة:- لا أظن أني أستطيع الصعود أو المشي في أي اتجاه الآن، أنا قادرة فقط على خلع العدة هنا. قالت مشجعةً: – حاولي، فقط اتبعيني. صعدت أول درجة من السلم الصخري، وفي الثانية وقعت على ظهري من الانهاك. بدوتُ كسلحفاة وقعت على ظهرها فلا تستطيع التقلب في أي إتجاه ولا تستطيع إلا البقاء على حالها. بدأت في نوبةٍ هستيرية من الضحك وأنا أتأمل السماء من الأرض ووجه مدربتي فوقي وهي تنظر إلى مبتسمة وتساعدني فقط على الخروج من وسط العدة بفك الأحزمة والأثقال، ثم تطلب مني البقاء للراحة ريثما تذهب بعدتها للسيارة ثم تعود لنقل عدتي. ذهبت وعادت ثم ذهبت وعادت، وأنا أضحك بهستيرية في مجلسي على الأرض، لا أقوى على الحركة. أضحك من ضعفي ومن قلة حيلتي، أضحك من استسلامي. مدت يدها إلي لأتعلق بها وأصعد معها فوق الصخور، عدت إلى السيارة لكي أختم آخر معاركي لهذا اليوم وهو خلع البدلة الجافة، احتجت لكافة ما بقي من طاقتي لكي أتخلص من هذا الرداء، مع اضطرار المدربة لمساعدتي كذلك. وفي طريق العودة لمدينة بوسطن من جديد أخرجتُ لوحاً من البسكويت المصنوع من الشوفان والمحلى بالعسل، وأنا في قمة الجوع والضعف. لكن مدربتي سألتني: – هل ستتعشين؟ أجبت وانا اهز رأسي وأقضم أولى لقماتي من البسكوت المحلى:- نعم بالطبع. قالت محذرة:- انتبهي اذا لا تأكلي البسكوت فقد يؤثر على شهيتك ولا تستطيعين تناول العشاء. حينها فهمت أن هؤلاء القوم تكفيهم لقيمات تقمن أودهم، أما نحن فقد عودنا أنفسنا على كثرة الأكل وبالتالي دوام شحن الطاقة. شكرت مدربتي وأنا أودعها، تعلمت الكثير خلال دورة الغوص بالبدلة الجافة ليس فقط في مهارة الغوص وإنما في قدراتي وفي عاداتي الغذائية وبنائي الجسدي، كانت دورة رائعة وذكرى جميلة، لكني لن أكررها..
ريم فؤاد بخيت
ناشطة بيئية واجتماعية/ خبراء المستقبل للاستشارات
