شقة بسيطة، مرتبة، أوروبية التأثيث، غربية الروح، صور عائلية تنتشر هنا وهناك على الطاولات الجانبية تشير لأفراد هذه الأسرة الصغيرة. تربض هذه الشقة في تلك العمارة القديمة بالمنطقة التاريخية من مدينة جدة، رائحة الخبيز الطازج تملأ انفي. السيدة أم ليلى تستقبلنا بكل الترحاب بلغة عربية مكسرة، تحاول الترحيب بنا بكل المصطلحات التي تجيدها. جلس أمامي على كرسي وثير، قد غاص فيه إلى حد مناسب لجسده الضخم، الذي بالرغم من مرور السنوات وما ناله من الشيخوخة إلا أنه مازال ضخماً بالنسبة لمن هم في مثل عمره وحاله.. فقد كان طويلاً جداً، لا أعلم هل هو الذي كان طويلا وضخما أم أنا التي كنت صغيرة وضئيلة، فقد عرفته وأنا في العاشرة من عمري وكان هو أربعينياً في عز فحولته ورجولته.. قوياً، ضخماً، طويلاً. كان شعره كثيفاً، ناعماً، ينسحب للخلف في غزارة مميزة بين الرجال، ومازال شعره للآن مرجلاً، غزيراً، بالرغم من تغير لونه وبياضه.. يبدو لي أنه ما تغير فيه شئ الا اللون.. لكن أكثر شئ شدني في هذا الرجل كان هو لغته العربية.. نعم كان يتحدث اللغة العربية الفصحى بلهجة اوروبية تذكرته وانا اقرأ قصة “خواجة يني” الذي ما ان قرأ والدي عنوان الرواية باسم هذا الرجل حتى علق بصوت عالي غير معتاد منه: خواجة يني كان يوناني عايش في شارع قابل، الكل كان يعرفه. سالته: هل تعرفه شخصيا يا بابا؟ قال: طبعاً، ماكان في أحد في جدة ما يعرفه.الخواجة يني والخواجة خصرو لابد ان يتميزان.، الخواجة يوسف خصرو باشاغتش هذا الذي هاجر من يوغسلافيا “بوسنيا حالياً” ايام الحكم الشيوعي هارباً بدينه واستوطن السعودية وحصل على الجنسية ولم يعود مطلقاً بعد ذلك ليوغسلافيا. كان أوروبياً قي طباعه، في جلده وشدته وتحمله.. لم يكن أشقراً أبيضاً بل كان حنطياً ذا شعر يميل للسواد يشبه أهل بلاد الهلال الخصيب وكانه لبناني او سوري أصيل فإذا نطق عرفت انه لا يمت لهذا العالم العربي بصلة الا بدين الإسلام.. لماذا أكتب عنك اليوم يا “عم خصرو” لماذا ذكرتك منذ الصباح الباكر بقوة بل احتليت تفكيري وسيطرت على قلمي ووجدته لا يذكر غيرك ولا يرى الا جسدك المنهك مستوي على الكرسي الوثير. ذكرت قططك التي تطعمها وتلاعبها وتسأل عنها وتكلف غيرك بالاهتمام بها، هناك ناس لا تستطيع ان تعيش على هامش الحياة، بل دوماً عندها عمل او قضية تشتغل فيها وتنشغل عن سفاسف الأمور بها. الآن في التسعين جعلت لنفسك قضية لأنك رجل كان يعيش دوماً في القضايا، خلقت لنفسك الآن قضية الاهتمام بالقطط الضالة التي قادها القدر ومشيئة الرحمن للاستيطان في حديقة منزلك الأمامية.. تذكرتك في شقتك التي كانت في البغدادية في عمارة باثابت ، إحدى المباني التي كانت وقتها في أواخر السبعينات من أفضل المنشآت التي يشار لها بالبنان. حيث تعرف عليك وعلى عائلتك كافة الجيران، هناك سكنت سنوات طوال مع عائلتك الصغيرة انت وزوجتك خديجة الجميلة -رحمة الله عليها- وابنتيك ليلى وسلمى.. نعم هناك تشابه آخر بينك وبين خواجة يني هو الآخر ما كان لديه الا ابنتان كريستينا ومارجريتا.. كان أهل تلك العمائر عائلة واحدة، يتزاورون ويتهادون، أسرة جمعها المكان والقلب الطيب وبساطة تلك الايام. أنت اليوم في أواخر التسعينات، بعد ان عملت لسنوات طوال، مهندساً مخلصاً وصادقا مؤتمنا في بلدية جدة . لا يوجد أحد في البلدية لا يعرف المهندس يوسف خصرو.. في آخر مرة زرتك فيها كنت في حجرة معيشتك في بيتك ترعاك ابنتك ليلى وأسرتها الحنونة.. حمدت الله أني أكتب عنك وأنت ما زلت في هذه الدنيا روحٌ تتنفس، وقلب يشعر، حيٌ ترزق، كرهت أن أكتب عن الناس بعد أن نحملها على الأنعاش..
ريم فؤاد بخيت
مستشارة تربوية وتعليمية
ناشطة بيئية.
