الولادة

نضحك معاً بصوتٍ عالٍ، من كثرة الضحك سالت دموعُ الأعين، واختلط صوت الأنفاس..

قلتُ -مستدركةً- من خلال ضحكتي: الموقف حينها كان دراما حقيقية، وتراجيديا واقعية وما كان كوميدياً كما نرويه لكم الآن.

لكن أحمد الله أني اليوم أضحك منه كما كنت أبكي منه بالأمس فقط.

وحضنت ابني، ومسحت بحنان على يديه الشابتين.

نعم في خضم تلك الأحداث توفيتُ أنا وولدتُ من جديد.. كان أحد أحب الناس لقلبي هو سبب وفاتي وولادتي، هو سبب شقائي وصلاحي، وهكذا يربينا ربُ العالمين على يد أشد الناس حباً لهم، وقرباً منهم، لا نتربى من الغريب ولا نتغير إلا من القريب.

هناك في مايو الماضي ووسط المقابر الإسلامية في “بوسطن” قعدتُ أودع ابناً وداعاً أبدياً وأودع آخر ذهب لعالمٍ مجهول.

هناك تجردتُ لله عزوجل بمنتهى الخضوع والذل، هناك فهمت معنى الاستسلام لله، ولأول مرة استوعبت التجرد. بكيتُ بكاءً لم أعرفه في عمري، شهقتُ شهقةً خرجت فيها روحي لكي تحيا من جديد.

خرجتُ من المقبرة رافعةً رأسي وقلتُ في تسليم أستودعتُك إبني ياربي فأنر بصيرته ونور طريقه وارزقه صحبةً صالحةً إنك سميع الدعاء، أنتَ القادر على كل شئ ولا يعجزك شئ. أنتَ الذي أعطيتني اياه أمانةً، وأنت اليوم يبدو أنك تسترجع أو تسترد أمانتك، فهل يحق لي الاعتراض؟؟ ..

هي رحلتك يا بني وكلٌ منا له رحلته، أنت اخترتها صاخبةً صادمةً واخترت تجاربك، وانتقيت معارفك. هي رحلتك يا بني وليس لي فيها إلا الدعاء لك وإحاطتك بعنايتي، وبصلاحي في ذاتي..

تذكرتُ طفولتك، لا، بل أقصد أني تذكرت ولادتك، تذكرتُ اللحظة التي ألقتك فيها الطبيبة من بطني على صدري لكي أتأمل عينيك ونباهة نظراتك، وأتأمل كف يدك وحجمه الكبير مقارنةً بيد أي طفل حديث الولادة.

تذكرتُ يوم سابعك وأنت تقف على رجليك في حجري، والطبيب متعجب ويعلق بقوله: “ماشاء الله، شو عصبه قوي”..

مشيت وركضت في البيت وأنت ابن التسعة أشهر، كنت تمشي بلا هدى فتتخبط ويزداد قلقي عليك وحمايتي لك من جسدك الذي يسبق أقرانه.

ثم تذكرتك وأنت ابن العام والنصف تمسك بيد والدك الكفيف لكي تسير به في الطريق، وأنت الذي تحتاج إلى من يرعاك..

تعجب والدك وأنت تمسك بيده لكي تريه صورة الفيل من كتاب الطفل، وتضع إصبعه على الصورة وتنطق بلهجة طفولية مؤكدة “فيل”.. قد استوعبتَ مبكراً أن أباك يرى ويقرأ بأصابعه..

حروفٌ بارزةٌ تقف شامخةً على صفحةٍ صماء، وتمرر أصابعك الصغيرة تستنطقها وتسألها عن معانيها.

تحرك شفتيك وكأنك تقرأ وتستنطق هذه الحروف البارزة “حروف برايل”..

والآن، أين أنتَ الآن؟! فقدتك، أضعتك ولا أجدك..

بين يدي القاضية وقفنا سوياً، أأدعي عليك؟! أأقف لكي أنال منك وتنال مني؟! لا، لا يمكن، يبدو أني في كابوسٍ مرعب!؟ أنهار فلا أستطيع الحوار، تكتفي القاضية بهزة من رأسي على أسئلتها بنعم أو لا.

تحاول محاميتك أن تجرحني وهي تدافع عنك، تتحول القاضية إلى محامية عني وتنال من محاميتك، قائلةً لها: ألا ترين أن الأم مهتمة، ألا ترين أن الأم محبة، ألا ترين أن الأم معطاءة، فكيف تجرُئين؟

ورقةٌ من محكمةٍ أمريكية تحكم علاقتنا، ورقةٌ تختصر الحمل في تسعة أشهر والولادة في يوم ونصف والتربية في سبعة عشر عاماً إلى تعهدٍ بطاعتك وإذعانك، ترمي بها أنتَ عرض الحائط وتستمر في تجاربك.

في ذات الليلة لوحدي في شقتي ب “بوسطن” انهرت بكاء، شعرت بالضعف والانكسار، شعرت بالحياة تفارق جسدي وبروحي تصعد للسماء في مرارة وحسرة. وفجأة وجدته على باب الشقة يستأذن في الدخول، كان اسمه “محمد” وكان رسول رب العالمين لي في تلك الليلة لكي أحيا من جديد. جلس يخاطبني بحنانٍ بالغٍ عن قصة سيدنا “إبراهيم” مع ابنه الذبيح “إسماعيل”، لم يعظ ولم ينصح، ولم يذكرني بالصبر ولا بالاحتساب، وإنما روى لي قصة جميلة بمفاهيم عالية وحكم سماوية.

كف دمعي، وأنار صدري، وشعرتُ بوميض في روحي، الآن فهمت.. الآن فقط عرفتُ أني أولد من جديد.. ذهب محمدٌ ولكن بقيت رسالته.

دبي/ الإمارات العربية المتحدة

٧ سبتمبر ٢٠١٤

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *