ناتاليا

أنا سمكة حرة، أتبختر في البحر وأسبح في كل مكان. أنا سمكة جميلة بلا شك لأني دوماً أرى الناس ينظرون لي بانبهار، وقد ينتاب نظراتهم شيئاً من الرهبة أو الخوف لأني سمكة من نوع ثعابين البحر وإسمي هو سمكة الحنكليس أو شاقة البحر كما يُطلق علي البعض، وآخرون يسموني سمكة المارينا. أنا منقطة طويلة ونحيفة، شكلي الذي يشبه الثعبان وفمي المفتوح باستمرار والمملوء بالأسنان يخيف الغواصين المبتدئين، ويعطي انطباع بأني شرسة وأني قد أهاجم الغواص، لكني في الحقيقة غير ذلك، حيث أني لا أهاجم إلا إذا أُثرْتُ. بعض الغواصين المخاطرين يقتربون مني ويطعمونني مستمتعين بذلك.

كنتُ في موطني بين الصخور التي كانت في القديم شعباً مرجانيةً في مياه جزيرة فورمنتيرا الإسبانية في البحر المتوسط كعادتي أرقب الغواصين من كل صوبٍ وحدب، غواصون من كل أنحاء الدنيا يأتون لهذه المناطق الدافئة في الصيف ليتمتعوا بدفء البحر المتوسط في هذا الوقت من شهر أغسطس. أنا أقطن الشواطئ الأسبانية في أرخبيل البليار منذ أعوامٍ عديدة أتنقل بين جزيرةٍ وأخرى، لا هم لي إلا إطعام ذاتي واستمرار الحياة في ظل الاحتكاك بهؤلاء البشر الرحالة المتنوعين.

وفي ذات يوم رأيت سمكةً غريبةً لعلها من نوع حوريات البحر التي أسمع عنها ولم أرها في حياتي، اقتربت منها فوجدتها إنسية، التقت أعيننا في نظرة استكشافية طويلة، لفت انتباهي هدوءها وثباتها، كانت في أوائل الخمسينات من عمرها، واضح أنها سباحة محترفة بل غواصة محترفة، إنها تستثيرني بغوصها الحر المتكرر، ومرورها قربي كل يوم منذ وصلت لهذه الجزيرة. بلا شك هي بطلة عالمية في الغوص الحر، لن أنبهر لو عرفت أنها قد فازت بميداليات متكررة وحطمت أرقاماً قياسية عالمية. راقبتُها تستطيع هذه البطلة أن تحبس نفسها حتى تسع دقائق بدون تنفس. تغوص بالزعانف إلى أعماق تصل لمئة متر وأكثر، وبدون زعانف لعمق حوالي أربعين متراً، كم هي رشيقة ! وكم هي رياضية مقارنةً بمن هن في عمرها من النساء اللاتي تمتلئ بهن الشواطئ كل عام. كانت في مجموعة من أصدقائها ومعها ابنها المقرب منها، سمعتها تنادي عليه “أليكسي” بقي أن أعرف اسمها هي لكن بلا فائدة. كل يوم أنتظر هذه المجموعة من الأصدقاء أن تنزل للماء عرفت عنهم الكثير، هم من روسيا قدمن للتمتع بالمياه الدافئة والتمرن على الغوص الحر.

وفي يومٍ كانت هناك في الأعماق وكان معها ثلاثة من أصدقائها، والتقت أعيننا كالعادة لكن في هذا اليوم شعرتُ بشئ غريب، خفتُ عليها، خرجتُ من مخبئي لكي أعيق غوصها المتكرر، لعلي أخيفها فلا تكرر الغوص لكنها لا تخاف ولا ترتدع. كانت التيارات الداخلية قوية، وكانت تدفعني بعيداً عنها. هناك رأيتها لآخر مرة، رأيتها بلا زعانف تغوص في الأعماق ويدفعها التيار بعيداً عني، وبعيداً عن أصدقائها، رأيتها تنساب بتلقائية لا إرادية مع التيار، وتبتعد إلى الداخل العميق جداً.

توالت الصرخات تنادي اسمها، “نتاليا مولتشانوفا” الكل يبحث عنها لكن لا أثر لها. طائرات مروحية وسفن بحرية وزوارق بحثية، كنت أخرج من مخبئي لكي أرشدهم وأشير لهم ولكن لا أحد فيهم يستمع لي أو يراني.

مرّ يومان واختفت البطلة ولم يعد لها أثر، حتى البحث توقف لم يعد هناك من ينادي باسمها أو يتلفت لعلها هي.

وجدتُ في الأعماق صفحةً من جريدة أخبار صباحية تغوص في الماء بجواري، فلفت نظري صورةٌ على صفحة الجريدة وخبرٌ كتب بالخط العريض:

 “اختفت بطلة العالم في الغوص الحر بحبس النفس الروسية ناتاليا مولتشانوفا، الأحد 2 أغسطس/آب، خلال غوصها. تشغل ناتاليا منصب رئيس الاتحاد الروسي للغوص، وهي أشهر بطلة في عالم الغوص بحبس النفس (من دون أسطوانة التنفس)، تملك في سجلها 41 رقما قياسياً، و23 لقبا عالمياً”.

فرت من عيني دمعتان وحبستُ شهقةً وانسحبتُ إلى منزلي بين الصخور متكوراً. كانت هذه إحدى قصصي ورواياتي مع بني البشر، فالبحر في أحشائه القصص المكنونة والأسرار الدفينة والكنوز الثمينة.

ريم فؤاد بخيت

ناشطة بيئية واجتماعية/ خبراء المستقبل للاستشارات

جدة

اغسطس -7 – 2015

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *