جنتهُم في قلوبِهم

وقفتُ على شاطئ البحر الأبيض المتوسط، أنظر إلى الأفق الشاسع وأفكر ماذا سيقول عنَّا التاريخ، كيف ستُكتب هذه الحقبة من الزمان؟! وبماذا سيُتهم من عاش فيها؟! لم أشعر بحرارة الشمس الحارقة يبدو أن الحريق بداخلي أكبر بكثير، خاصةً بعد اطلاعي على أعمال الإغاثة التي تقوم بها المنظمات الانسانية المختلفة. 

كان هناك رجلٌ يقف من بعيد يرقبني ويرقب دموعي، اقترب مني ثم قال لي وفي عينيه حسرة:- كنتُ هناك، كنتُ غواصاً في فريق الانقاذ البحري التابع لحرس الحدود اليوناني.

مسحتُ دموعي بأصابعٍ مرتجفة واستجمعتُ صوتي حتى أستفسر منه أكثر:- وما مهام عملك الرئيسية؟ ماذا تفعل؟

رد عليَّ قائلاً: – أغوص لأنتشل. أغوص لأبحث، أغوص لأكتب التقارير مرفقة بالصور، لكني أترك غصاتي بين طيات صدري، لا يسطرها قلمي ولا يدونها حاسبي الآلي.

قلت وقد شدني حواره: – حكيني قصتك. لماذا تخاطبني والدموع في عينيك، والأسى على محياك؟! ماذا رأيت؟ ماذا اكتشفت؟

قال: كنا هناك ربيع وصيف عام ٢٠١٥ ورأينا ما يندى له الجبين. كنتُ مع مجموعتي نعمل في إحدى الجزر اليونانية الصغيرة القريبة من الحدود التركية. كنت تابعاً لوحدة حرس الحدود لكني لا أخرج إلا عند وقوع طارئ. كانت الحياة قبل ذلك العام هادئة، نتعامل فقط مع حالات قلائل، صيادون ضلوا طريقهم في البحر أو متنزهين فُقِدوا أثناء السباحة. فجأة اختلفت الأمور، الأزمة السورية تزداد احتقاناً، العالم لا يقدم ساكناً، فر الشباب من سوريا ولبنان متوجهون للشاطئ الأوروبي الوحيد القريب، ثم فرت أسرٌ كاملة، يلتمسون دخول أوروبا والحصول على إقامة أو جنسية، يريدون البدء من جديد، ضاقت عليهم بلادهم و طردتهم أوطانهم، أصبح القتل في كل مكان، ولم يعد للأمان عنوان. إذا رأيتهم ترى الوجوه قلقة، النبرات عصبية، النظرات زائغة تبحث عن أمل ضائع.

أنقذنا الكثير من الذين سقطوا في البحر، ومن الذين غرقوا بسبب عدم توفر طوق نجاةٍ أو قوارب سليمة. وضاع منا الكثيرون كذلك، أطفال ونساء، كبار وصغار. كانت الهجرات مجنونة، لكن لا نستطيع أن نلومهم، يفرون من الموت للموت. انتشلت بيدي هاتين الكثير من الجثث، كنت أبكي في نومي وأرى هذه الجثث تخاطبني وتلوم العالم. هناك قصة أسطورية لا أنساها لعائلة فرت من سوريا على متن مركبٍ مطاطي، كان عددهم عشرة على قارب حمولته القصوى سبعة أشخاص. لا يعرفون شيئا عن البحر، ولا عن الإبحار، يقودهم صاحب المركب الطاعن في السن الذي امتلأ وجهه بالتجاعيد. وكبيرهم رجل كفيف يتلو القرآن من ذاكرته.

عثرنا عليهم بالصدفة بعد أن ضاعوا يومان كاملان. كنا نبحث عن مراكب لبنانية تم الابلاغ عنها فما تمكنت من النجاة، فوجدناهم في طريقنا، كانوا مبتسمين، ثابتين لا يبدو عليهم الجزع، رأيت السمك يحوطهم، يحميهم ويترك من بعضه طعاما لهم بدون أقصى جهد أو أدنى تعب. عندما أبلغنا البعض بما رأيناه سخروا منا فعصر المعجزات قد انتهى، لكن المعجزة الأكبر كانت في الرضا والتسليم والترحيب بكل ما هو مقدر ومكتوب. كان الحوار مع هذه العائلة أشبه بالحوار مع الأنبياء، وكانت أول كلمة تلفظ بها صغارهم قبل كبارهم: الحمد لله.والله لقد رأيت من تسهيل أمورهم عجباً ثم ذهبت للكفيف أسأله عن اختلاف أسرته عن باقي الأسر التي تعرفنا عليها فقال: يا بني، إذا بقيت في سفينةٍ بالبحر ثلاث ليال سيبدو لك اليابس بعد ذلك غريباً ومضحكاً. يا بني، الرضا هو السر، والله خلق الإنسان يتأقلم على مختلف الأوضاع، لكن بالحمد تدوم النعم، وبالحمد تزيد النعم.

“قلتُ: “كانت جنتهُم في قلوبِهم. 

ريم فؤاد بخيت

مستشارة تربوية وتعليمية

خبراء المستقبل للاستشارات

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *