جدة
شوال ١٤٣٦
أنظر في شاشة الهاتف الخلوي بين يدي، تشر الساعة للرابعة فجراً.. ليلةٌ ليست كباقي الليالي، أنتظر سماع العصفور النغري الذي يقطن عند نافذتي لكن لا صوت له الليلة. إنه صمتٌ تام.. صمتٌ يحيط بي من كل الجهات.. أستمع بانتباه للسكون من حولي. نعم إنها ليلة مختلفة، يومها سيكون ذكرى يوم مولدي. وبدأت كلمات الأغنية القديمة التي حفظتها في طفولتي المبكرة، تتردد في ذهني:عُدت يا يوم مولدي .. عُدت يا أيها الشقيالصبا ضاع من يدي .. وغزا الشيب مفرقي ليت يا يوم مولدي .. كنتَ يوماً بلا غد ليت أني من الأزل .. لم أعش هذه الحياةعشتُ فيها و لم أزل .. جاهلا أنها حياة ليت أني من الأزل .. كنت روحا و لم أزل أنا عمر بلا شباب .. و حياة بلا ربيع أشتري الحب بالعذاب .. أشتري فمن يبيع؟أنا وهمٌ .. أنا سراب”يا الله على النكد” فعلاً قمة النكد، هذه هي الكلمات التي حفظناها في طفولتنا، وغنيناها في شبابنا، ودمرنا بها ابتساماتنا.الثقافة العربية في تلك الحقبة الزمنية كان اسمها “ثقافة النكد”. اليوم نطلق عليها “أيام الطيبين” و “سينما الطيبين” وهكذا.. لكن هل من لوازم الطيبة النكد؟! وأنا طفلة صغيرة كنت أسمع السيدات الكبيرات حين نضحك يقلن مباشرة “يارب اجعله خير” ويترقبن ما هي المأساة التي ستتبع ضحكاتنا البريئة، واذا كان الحفلُ ناجحاً سمعت تمتمات تقول “يارب استر” والمعوذات تُتلى وتُقرأ.. وكأنه لا يحق لنا أن نفرح بدون أن نعاقب مباشرة على فرحنا أو سعادتنا.. إنها ثقافة تستكثر على الفرد أن يفرح بلا عقوبة، ثقافة وازعها الضميري يرفض الانطلاق والانشراح. واليوم ثقافتنا العربية لابد أن نرمز لها ب “ثقافة العنف” أو “ثقافة الغضب” ومنتجاتنا الثقافية هي سينما الغضب وإعلام العنف وفن القهر والخ.. عاد يوم مولدي بهدوء، عاد يوم مولدي لكني أفتقد العصفور. أتفكر فأتذكر، الليلة ليلة وترية، وهي ليلة التاسع والعشرون من رمضان. الفراغ يصم أذناي ويحضن قلبي بهدوء. أين ذهب النغري؟ كل ليلة في مثل هذا الوقت يبعث بأنغامه لكنه الليلة يضن علي بأي صوت أو حركة.. لعلها الليلة التي هي أفضل من ألف شهر، ليلة القدر.. شعرت بالكون يناديني للخروج له. والفجر يسبح بعظمة الخالق.. قررت الصعود لسطح المنزل .. صعدت وصعدت وصعدت..انطلقت أقرب ما أكون من السماء وجلست أرقب شروق الشمس، نسمات عليلة باردة تلفح وجهي، والشمس تخرج من مخدعها بهدوء بلا أشعة ولا حرارة، والكون في صمت، عبراتي تخنقني، ابتسامتي ترتسم على وجهي، أسناني تصطك وأنا ألهج بالدعاء، أدعية ما حلمت يوماً أن الله سيلهمني اياها، خرجت من لساني، أسمع صوتي وأستغرب صوتي المخنوق بالعبرات، ارتفعت الشمس في السماء، وهدأت النفس، وسرت القشعريرة في جسدي، واهتز وجداني وذاب فؤادي في حب الإله. وشعرت بسعادة تعم كياني ورضا يشمل ذراتي، سلام وأمن واستسلام هذا هو معنى الإسلام الحقيقي والإيمان المفترض. لا نكد بعد اليوم، لا لأغاني الطيبين، ولا لمسرح الطيبين. ولا لعنف الحاضر المعاصر، ولإعلامه القاتل، لا وألف لا. بدأت أغير كلمات الأغنية، لكي أدونها وأحفظها من جديد، بعد أن دعمتها بمعاني الإيجابية والسعادة:عدتَ يا يوم مولدي.. عدتَ في ليلة الهناء والرضا يشمل حجرتي.. والبِشْرُ يغزو أنمُلي عدتَ يا أيها الغني.. بتجاربِ الزمن والحبُ بين أضلعي.. والسلام ُردائي وحُلتي كل عامٍ وأنا بخير، كل عامٍ وأنا لله أقرب، كل عامٍ وأنا أدونُ وأكتب، كل عام وأنا أخدم أسرتي، كل عام وأنا أسعد وأسعد.. كل عامٍ وأنتم تترقبون وتشهدون ليلة القدر، كل عامٍ وأنتم من العايدين المقبولين.
ريم بخيت
