سالزبورج/ النمسا٤ سبتمبر ٢٠١٤
السفر من جديد، الترحال بين البلدان، في سكينة ذلك النهار الشتوي المشرق، ثالث يوم على زفافهما، جلسا متجاورين في القطار، يتجولان بين المدن الأوروبية، رائحة القهوة تملأ أنوفهما، قلبان متحابان في شهر العسل يذهبان لقضاء بضعة أيام لكي يطلقا فيها أجنحتهما سوياً، لكي يستقرا في أحضان بعضهما البعض بلا منازع ولا مشارك.. قالت له، وعينيها تذوب في نظرات عينيه: غذاء المرأة هو الحب وليس المال ولا الجاه ولا السلطان. تركت يدها ترتاح بين يديه، وأغمضت عينيها وهي مبتسمة برضا، فجأة شعرت بيده تضغط على كفها برقة، فتحت عينيها أشار بطرف عينه تجاه باب المقطورة.. لم يحتج للحوار، فاللغة التي بينهما لا تحتاج للكلمات.كانا هناك شابين في أواخر العشرينات، الشابة على مقعد متحرك وتعاني من عدم القدرة على تحريك يديها ولا رجليها بل حتى رأسها يسقط على صدرها ثم ترفعه، أطرافها معوجة، تومئ ايماءً، وتتمتم بما تريد بصوت غير مفهوم..دفع الكرسي داخل المقطورة، بحث عن مكان المُقْعدين الخاص، أوقف الكرسي المدولب في مكانه المخصص وربط الفرامل اليدوية، وضع شنطة يده وشنطتها على الرف المخصص للشنط اليدوية. ثم بدأ يخلع لها معطفها الشتوي وكفوفها الدافئة وشالها المحيط برقبتها، يفعل كل ذلك وهو يخاطبها بلغته الألمانية فيشرح لها كل فعل ولماذا يفعله.فيقول: الآن نخلع ملابسنا الثقيلة لأن القطار مدفأ، ولو بقينا بالملابس سنعرق ونشعر بالحر. ثم يقول: الرحلة ستأخذ ساعتين إلى ثلاث ساعات ونصل لسالزبورج، نقضي فيها يومين ثم نكمل رحلتنا الاستكشافية.وهكذا ما فتأ هذا الشاب الرياضي الوسيم يشرح لمحبوبته المعاقة، ويتكلم معها خلال عملية الاستقرار والاستيطان المؤقت في القطار التي كان يقوم بها. كان يشعر بها، يقرأ احتياجاتها، يكلمها، يقبلها، يحضنها، يطعمها ويسقيها..ثم استقر أمامها وفتح كتابه للقراءة في المقعد المقابل لها والمخصص له، لكن قبل ذلك كان قد خلع حذاءه الشتوي الضخم وجواربه الصوفية، ومد رجليه تحتضنها في كرسيها المدولب، يدها مسكت إحدى القدمين وتعلقت أصابعها بها.. هو بدأ في القراءة، وساد الصمت ..ولم تفتأ يدها تعصر قدمه المكشوفة بين يديها وتحسس بحنان على أصابع قدميه.. كان مشهداً من ألف ليلة وليلة في العشق.. كان مشهدا للفارس الذي ينقلها بأمان، ورجُلها الذي يوفر لها كل شئ، كان الجدار الذي تتكئ عليه بثقة، الحب هو القانون الذي ربطها مع هذا الرجل، هو الغذاء الذي يمنحها إياه.. إن الحب كما قال الرومي هو ماء الحياة، وهنا الحب روى الحياة.. مرت سنوات عديدة لكن صورتهما في ذهن الزوجين الشابين لم تُمحَ، لعل الله أرسل لهما نموذجاً عملياً يتعلمان من خلاله، فحبهما لا يُنسى وعطاؤهما المتبادل صورة إنسانية جميلة للإحساس المتبادل والتجانس المتكامل.
