هناك فوق الصخور البركانية أمام المحيط الهندي العظيم بكل كائناته وبعلو موجاته وبهدير صوته جلستُ مختبئة في كهفٍ صغير مطلٍ على مقفز يستخدمه شبابُ المنطقة للقفز في المحيط. خليجٌ محاطٌ بالصخور عرضه حوالي ثمانية أمتار وطوله لا يقل عن العشرين متراً، حمام سباحةٍ طبيعيٍ مفتوح على المحيط صنعته الرياح والأمواج ، صنعته قوى أكبر بكثير من القوى الإنسانية المحدودة. أرى فناراً إنسانياً يقف متحدياً الرياح العاتية والأمواج المتلاطمة ثابتاً في القيام بدوره في هداية السفن الحيارى والقوارب الضائعة. يبدو لي أن عمره لا يقل عن مئتي عام. لعله من عصر الاستعمار الفرنسي للجزيرة فقد توالت على هذه الجزيرة تعديات أوروبية متلاحقة فقد حكمها الدنماركيين ثم الفرنسين ثم الانجليز.
هذه بلاد “الواقواق” التي ضربنا فيها المثل ونحن صغاراً في البُعد والغموض والسحر. بلاد أو جزيرة بكافتها نُسِبَت لهذا الطائر المنقرض حديثاً في الستينات من هذا القرن، طائر الواقواق. أرى المزيج السكاني العجيب من حولي فهناك الأوروبيون ببياض بشرتهم وشقرة شعورهم وتلون عيونهم، وهناك الأفارقة بسمرتهم الشديدة الداكنة وشعورهم المجعدة، وهناك الهنود بحنطةِ بشرتهم ودقةِ عظامهم وانسيابيةِ شعورهم. خليط سكانيٌ عجيب تجمعهم جنسية واحدة وأرض ساحرة غريبة. أستمع لقصصهم الشعبية اليومية بشغف فهذا الخليط السكاني له قيمه ومعارفه ومفاهيمه فقد أجاد كل شعب في صنع قصصهم البطولية وأعمالهم الإنسانية الخارقة. ومن ضمن القصص التي تتكرر قصص بعض هؤلاء اللائي يقفزون من أعلى الشلال السابع على ارتفاع لا يقل عن خمسين متراً لكي يلاقوا حتفهم ليس لأنهم خافوا أو أن الارتفاع تسبب في توقف قلوبهم إلا أنهم ببساطة إما لا يجيدون السباحة، فلم يستطيعوا العوم بعد الهبوط، أو لا يجيدون تسلق الجبال فلا يستطيعون سلوك طريق العودة للأعلى حيث تقف سيارتهم فينزلقون على الصخور ويهلكون.
وتُروى هذه القصص على أنها بطولات وحكايات في مجالس السمر. وهناك أولئك الذين يسبحون في المحيط ويقررون الخوض في معركة ضد الدوامة، هناك دوامات معروفة المواقع، وهي تشفط من يتحداها وتأخذه لوسطها فلا تلفظه إلا جثة هامدة. هناك من يرغب في التحدي، تحدي الدوامة أو تحدي قوى الطبيعة ليثبت لأصدقائه وأقربائه بطولته وشجاعته وقوة بنيته. فينتهي ويصبح قصة من قصص المجالس وذكرى رغبة في البطولة والرفعة. ما زلت في متكئي ومخبئي بين الصخور البركانية أتأمل فحولة الشباب الطاغي وهو يتحدى الارتفاع ويغوص في الماء بجواري، كلٌ منا ينتخب معاركه ويضع أهدافه متأثراً بنشأته وتربيته ومعايير مجتمعه. قليلٌ منا الذي لا يتأثر بمجتمعه أو يعي مدى تأثير المجتمع عليه. والموفق هو من استطاع أن يعي فلا يتأثر ويجعل منفعة الكون وإعماره هو مقياس ومعيار البطولة.
ريم فؤاد بخيت
مستشارة تربوية واجتماعية
خبراء المستقبل للاستشارات
موريشيوس٢٧ أكتوبر ٢٠١٥
